بسم الله الرحمن الرحيم . إذا أردت أن تحفظ القرآن وتحصل على سند ، ما عليك سوى الاتصال بنا . كما يمكنك الحفظ معنا عبر الإنترنت
إذا أردت دراسة أحد علوم اللغة أو أحد المواد الشرعية فقط راسلني .::. إذا أردت إعداد بحث لغوي أو شرعي فنحن نساعدك بإذن الله

language اللغة

English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

اذكر الله

09‏/05‏/2012

كتاب جديد في الفقه ....أحكام الإكراه وتطبيقاته في الفقه الإسلامي

أحكام الإكراه وتطبيقاته في الفقه الإسلامي



عنوان الكتاب
أحكام الإكراه وتطبيقاته في الفقه الإسلامي
اسـم المؤلف
تيسير محمد برمو
النـاشــر
دار النوادر - دمشق
سنة الطبع
ط1 – 1433هـ
عدد الصفحات
576
نوع الكتاب
رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير بجامعة دمشق كلية الشريعة.
التعريف بموضوع الكتاب:
الإكراه حالة من حالات الضرورة التي وضع لها الشارع أحكاماً استثنائية خاصة بها، حيث راعى الشارع حال المستكره، والضغط الذي يتعرض له بسبب الإكراه، فرفع عنه الإثم، وأبطل حكم كثير من تصرفاته تخفيفاً ورحمةً به.
الكتاب الذي سنتناوله هذا الأسبوع يتناول أحكام الإكراه في الفقه الإسلامي، مقارنةً مع القانون السوري،
وقد بدأ المؤلف كتابه بتمهيد ذكر فيه عرضاً موجزاً عن الأهلية وعوارضها، اقتصر فيه على بيان معنى الأهلية، وأقسامها، والعوارض التي قد تعترضها.
ثم شرع في الباب الأول والذي تكلم فيه عن القواعد العامة للإكراه, وقد غلب على هذا الباب الطريقة الاستنتاجية, واشتمل على فصلين اثنين:
أما الأول: فبيَّن فيه معنى الإكراه، وتعريفه في اللغة، وفي الشرع، عند المذاهب الأربعة، وغيرهم من المعاصرين، كما ذكر تعريفه القانوني، ليستخلص من ذلك كله تعريفاً وهو (الضغط على إنسان ظلماً بوسيلة مرهبة أو بتهديده بها لإجباره على القيام بتصرف ممتنع عنه), ثم ذكر بعد ذلك، صور الإكراه، وأركانه، المستنبطة من هذا التعريف.
وفي مبحث من مباحث هذا الفصل تناول المؤلف شروط الإكراه عند الفقهاء، فتطرق لشروط المكرِه, وشروط المستكره, وشروط المكرَه به, وشروط المكرَه عليه, ليعقبها بعد ذلك بذكر شروط الإكراه في القانون، مع عقد مقارنة بين شروط الإكراه في الفقه الإسلامي, وشروطه في القانون، مبيناً أن هناك أوجه اتفاق واختلاف بينهما، ليتناول بعد ذلك أقسام الإكراه عند الفقهاء والأصوليين من جانب، وأقسامه في القانون من جانب آخر.
انتقل المؤلف بعد ذلك إلى الفصل الثاني, وقد خصصه للحديث عن أثر الإكراه، متناولاً إياه من عدة جوانب, فتناول أثره في التكليف مرجحاً أن المستكره مختار من وجه وغير مختار من وجه آخر، فهو مختار كونه يمكلك أصل الاختيار وهو القدرة على فعل الشيء وعلى تركه, وغير مختار لكونه يقصد دفع الضرر المكره به لا ذات ما أكره عليه.
وتناول أيضاً أثر الإكراه في المسؤولية القانونية، وضابط أثره في التصرفات عند المذاهب الأربعة، ومن وجهة نظر القانون، ثم ذكر بعد ذلك أثر الإكراه في التصرفات الشرعية والحسية.
بعد ذلك شرع المؤلف في الباب الثاني, وقد جعله للفروع والمسائل الفقهية, جمع فيه بين الطريقة الاستقصائية والاستنتاجية في البحث, فجاء على صورة مسائل فقهية قد حرر محل النزاع فيها, وذلك بذكر صورها وعرض آراء الفقهاء فيها واستعراض أدلتهم ومناقشتها مع الترجيح.
وهذا الباب تألف من خمسة فصول: كان الحديث في الفصل الأول منها، عن أثر الإكراه في صحة العبادات، وفسادها، وتناول فيه مسائل من الطهارة, والصلاة, والصيام, والاعتكاف, والحج.
وفي الفصل الثاني من فصول هذا الباب تكلم عن أثر الإكراه في صحة المعاملات، وفسادها، فذكر فيه الإكراه على عقد البيع بحق, وبغير بحق, حيث رجح المؤلف بطلان عقد المستكره بغير حق, وصحته إذا كان بحق.
أما الفصل الثالث فكان الحديث فيه عن أثر الإكراه في الزواج, والطلاق، واليمين وعرض فيه المؤلف عدة مسائل أورد فيها أقوال أهل العلم وناقشها, ورجح منها ما ترجح لديه.
من ثم تحدث المؤلف عن أثر الإكراه في الجنايات والحدود, وذلك في الفصل الرابع من هذا الباب, فتناول بالحديث الإكراه على القتل والجرح, مرجحاً إيجاب القصاص على المستكره والمكره في هذه المسألة. وأما الإكراه على الإضرار بالنفس، فقد ذكر لها المؤلف صورتين: أن يكرهه على الإضرار بنفسه من خلال تهديده بضرر مماثل, وفي هذه الصورة رحج المؤلف أنها لا تعدُّ إكراهاً, والصورة الثانية والتي عدَّها المؤلف إكراهاً, وهي أن يكرهه على الإضرار بنفسه من خلال تهديده بضرر أشد.
كما تناول في نفس هذا الفصل مسائل متعلقة بالإكراه والحدود, منها الإكراه على الزنا، فذكر أنه لا خلاف أن المرأة المستكرهة على الزنى لا حدَّ عليها, بينما الرجل وقع فيه الخلاف, ورجح المؤلف قول الجمهور أنه يسقط عنه الحد لشبهة الإكراه, والحدود تدرأ بالشبهات.
ومن المسائل أيضاً، مسألة الإكراه على الردة، وبقية الحدود كالقذف, وشرب الخمر, والسرقة, والحرابة, وإكراه البغات لأهل الذمة على القتال معهم.
ومما تناوله المؤلف في هذا الفصل أيضاً، مسائل الإكراه والضمان, أو الإكراه على إتلاف المال أو أخذه, وقد رجح المؤلف ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الضمان يكون على المكرِه دون المستكرَه, إذا كان المكرَه به مما يوجب هلاك النفس أو عضو من الأعضاء.
ثم ختم المؤلف الباب والكتاب بفصل خامس بعنوان الإكراه والقضاء، تناول فيه عدة مسائل منها: الإكراه على الإقرار، والإكراه على الحكم بغير ما أنزل الله تعالى, وعلى شهادة الزور.
بقي أن ننوه أن الكتاب في أصله رسالة علمية، تقدم بها المؤلف لنيل درجة الماجستير من جامعة دمشق، كلية الشريعة قسم الفقه الإسلامي, نسأل الله أن ينفعه به في الدارين.

التقدمية والرجعية ،،، مقال رائع للعلامة الراحل على الطنطاوي رحمه الله

التقدمية والرجعية
علي الطنطاوي (ت 1420هـ - 1999 م)
نشر عام (1966 م)
أعرف أن لكل عصر كلمات تمشي فيه على الألسن، يقبل عليها الشباب ويفتنون بها من غير بحث عن حقيقة معناها، كما يتلقف النساء (أعني بعض النساء) الموضات في الثياب، ويقلدنها، ويحرصن عليها من غير أن يدركن الفائدة منها! ولقد كانت الموضة السائرة ونحن صغار كلمة (عصري)، وكانوا يتهمون كل متمسك بالدين بأنه متعصب، وغير عصري. وقبلها كانت الموضة كلمة (منوَّر)، فالذي يخالف ما عليه الشباب يتهمونه بأنه غير منور. وكان كثيرون من ضعاف الإيمان يتظاهرون بترك الدين (وهم متدينون في الواقع) خوفاً من أن يقال إنهم غير منوَّرين، أو إنهم متعصبون غير عصريين!
وقد بطلت اليوم هذه الكلمات، وحلت محلها كلمات جديدة، صارت هي موضة العصر، وهي كلمات (التقدمي) و(التقدمية) و(الرجعي) و(الرجعية). ولقد كنت أكتب من تسع عشرة سنة كلمات قصاراً في جريدة شامية بعنوان (كل يوم كلمة غيرة)، فكتبت يوماً أسأل أهل التقدمية عن تعريفها الذي يبين حقيقتها وعن تعريف الرجعية الذي يوضح حدودها، وانتظرت طويلاً فلم أجد عندهم الجواب الشافي.
الذي أعرفه أن التقدمية مشتقة من التقدم، وأن العرب قالوا (التقدمية) في مثل هذا المعنى. وتستطيعون أن تراجعوا معناها في (أساس البلاغة) وفي المعاجم. وأعرف أن الرجعية من الرجوع. فإذا وقفت في جدة ووجهك إلى البحر وتقدمت فأنت بهذا المعنى تقدمي، تزداد (تقدمية) كلما اقتربت من الشاطئ، وإذا جعلت ظهرك إلى البحر وتقدمت فأنت تقدمي أيضاً، تزداد (تقدمية) كلما ابتعدت عن البحر. فكلاهما تقدمي، فمن منكما التقدمي الحقيقي؟
فأنت لا تعرف (التقدمية) إذن إلا إذا حددت الوجهة التي تتوجه إليها. هذا هو التفريق المادي بالنسبة إلى الرجل الذي يمشي، فما هو التفريق المعنوي بين (التقدمية) التي يدعون إليها، و(الرجعية) التي يخوفون الناس بها؟
هل يريدون بالتقدمي الرجل الذي يدعو إلى الجديد، إلى عصر الذرة والصاروخ، وبالرجعي الرجل الذي يتمسك بالقديم، ويريد أن نعود إلى عهد الجمل والسراج؟ إن كان هذا هو الذي تريدون، فليس بشيء؛ لأن الأمور لا تقسم إلى جديد وقديم، بل إلى حقٍّ وباطل، وخير وشر. وإذا كان كل قديم- على رأي هؤلاء- عتيقاً بالياً، واجباً تركه، فإنَّ العقل أقدم من الدين، فإذا تركتم الدين لقدمه، فاتركوا العقل؛ لأنه أقدم منه، وعودوا مجانين، هاربين من مستشقى المجاذيب! والحب قديم، فاتركوا الحب. والزواج قديم، فأبطلوا الزواج. وآباؤكم وأجدادكم صاروا من أهل القديم، فتبرؤوا من آبائكم وأجدادكم... أفهذا كلام يا ناس؟!
كلا، ما هذا هو المقياس الصحيح. وإذا كان في هذا العصر تقدم العلم وازدهار الحضارة، فإن فيه الحروب المدمرة، والقنابل المبيدة، والتهتك والفساد، وفي هذا العصر تركنا اليهود يسلبوننا قطعة من قلب بلادنا، ويستأثرون بها دوننا، ويشردون أبناءها حتى يتفرقوا فوق كل أرض، وتحت كل نجم، وقبل ألف سنة كان أسلافنا يركبون الإبل، لا يعرفون السيارات، ولا الطيارات، ويعيشون على السُّرج، ومصابيح الزيت، ولكنهم كانوا سادة الدنيا، وكانوا أعزَّ الأمم.
فإذا قلتم: إننا رجعيون. فنحن معكم، ونفتخر بأننا من الرجعيين. لكننا لا نريد الرجعة إلى عهود الاستعمار، ولا إلى أيام الانحطاط والتأخر، بل نريد الرجوع إلى العهد الذي كنا فيه ملوك الأرض، وكنا أساتذة العالم، وكان في أيدينا صولجان الحكم، وكان في أيدينا منار العلم. إلى عهد الصدر الأول، العهد الذي خرجت فيه الجيوش العربية المسلمة من هذا البلد تحمل راية محمد صلى الله عليه وسلم، فركزتها على كل جبل، وفوق كل قلعة، ومن قلب فرنسا إلى قلب الصين.
على أننا إذا تلفتنا إلى الماضي، فلا نلتفت إليه لنرجع القَهْقَرى، ونمشي إلى الوراء، بل لنستمد منه القوة على السير سعياً إلى الأمام، إلى الأمام لنربط بين الماضي المجيد، والمستقبل المجيد، إلى الأمام لنصل مجدنا الجديد بمجدنا التليد.
إننا نعلم أن الاستغراق في الماضي وحده نوم أو جمود، والاستغراق في المستقبل وحده هوس وجنون، والاستغراق في الحاضر وحده عجز وقعود. ونحن نريد أن نستمدَّ من الماضي دافعاً وحافزاً، ومن المستقبل موجهاً ومرشداً، ومن الحاضر عماداً وسناداً.
إننا ندعو إلى العودة إلى الماضي، ولكن ما معنى هذا؟ هل معناه أن نعود القرون الماضية، ونرجع الكرة الأرضية في دورانها، ونسقط من حساب الزمان هذه القرون الطويلة، حتى نعيش في القرن الأول الهجري مرة أخرى؟ هذا مستحيل.
هل معناه أن نعود إلى حياة القرن الأول؛ فنركب الإبل، وندع السيارة، ونسكن الخيام، ونترك البيوت، ونعود إلى طبِّ الحارث ابن كلدة، أو أبي بكر الرازي، ونترك الطب الحديث؟ هذا ما لا يقول به أحد؛ بل نريد العودة إلى مثل ما كان عليه أجدادنا؛ من العلم، والمجد، والقوة، والسلطان.
ونحن نعلم أنَّ هذا المجد لا يعود بالأحاديث والخطب، ونعلم أنَّ السجين المصفَّد بالأغلال لا يطلقه تذكر الحرية، والتغني بلذاتها، وأن الجائع لا يشبعه تذكر موائد الماضي، واستعراض ألوانها، وأن الفقير لا يغنيه تذكر زمان غناه، والزهو بما صنع فيه، وأن الذلة لا تُدفع عن الذليل بنظم قصائد الفخر بعزة جده وأبيه.
ولكننا نعلم أيضاً أن السجين الذي ينسى أيام الحرية يستريح إلى القيد، ولا يجد حافزاً إلى الانطلاق، وأن الفقير الذي ينسى زمان الغني يطمئن إلى الفقر، ولا يجد دافعاً إلى الاستغناء، وأن الذليل الذي ينسى عزة أبيه يألف الذلَّ، ولا يجد قوة على دفعه.
إذا اطمأننا إلى جلال ماضينا، وحسبنا أن خطبة بتمجيده، ومقالة بالإشادة به، تغنينا وتكفينا، فلن يعود لنا هذا الجلال أبداً، وإن نسينا أننا أبناء سادة الأرض، وأساتذة الدنيا، لم يحرك أعصابنا شيء إلى استعادة هذا المجد.
فلنأخذ من الماضي بقَدْر، نأخذ منه ما يدفع ويرفع وينفع، وندع منه ما يُثبِّط ويُقعد ويُنيم. وإننا لا نريد أن نعود إلى الزمان الماضي، فالزمان يمشي أبداً لا يقف ولا يعود، ولا نعود إلى مثل معيشة الزمان الماضي، ونترك ثمرات الحضارة، ولكن نعود إلى المثل العليا، وإلى الفضائل التي لا تفقد قيمتها بمرور الزمن؛ فكما أن الذهب والألماس لا يضره القدم، ولا يصدأ كما يصدأ الحديد، فإن في المعاني ما هو كالألماس والذهب في المعادن.
نحن نريد أن نعود إلى هذه الحياة؛ هذه هي رجعيتنا التي لا ننكرها بل نفتخر بها، قد عرفناها ووضَّحناها، فما هي تقدميكم يا أيها السادة التقدميون؟
هل معناها التقدم من أهل الغرب وتقليدهم في كل شيء، بل تقليدهم في الشرِّ الذي يشكون منه، ويتمنون الابتعاد عنه؟ وأن نهمل عقولنا، ونترك شرع ربنا، ونتبرأ من آبائنا وأجدادنا، ونمشي وراء الغربيين فنقول بمقالهم، ونفعل فعلهم، فإن كشفوا العورات كان سترها رجعية، وإن أعلنوا الزنا كان إعلانه تقدمية، وإن لبسوا السراويل في أذرعهم، والمعاطف في أرجلهم، أو قعدوا على الأرض، وأجلسوا الكراسي فوقهم، أو أكلوا الحساء (الشوربة) بالشوكة، والبطيخ بالملعقة،، فقد وجب في شرعة التقدمية أن نفعل فعلهم وإلا كنا رجعيين؟!
إذا كان هو المراد بالتقدمية فتشجعوا وقولوه، ولا تدعونا نطالعه من خلال السطور ومن بين الكلمات .

المصدر: فصول في الدعوة والإصلاح للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون ديرانية - دار المنارة، السعودية، ط1، 2008هـ (ص 9) بتصرف.

التدرج في تطبيق الشريعة... المفهوم والرؤية ..أحمد سالم ( أبو فهر السلفي )

التدرج في تطبيق الشريعة... المفهوم والرؤية
أحمد سالم (أبو فهر السلفي)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن السعي لضبط الأفراد والجماعات والمؤسسات وسائر النشاطات الإنسانية بمرجعية الوحي فيُحل الجميع ما أحل الله ويحرمون ما حرم الله ويجتهدون في تقدير حكم ما سكت الوحي عنه وَفْق المصلحة والمفسدة والموازين الخاصة بكل باب: هو عين ما يعبَّر عنه بتطبيق أو تحكيم الشريعة.
ولما كان كثير من ذلك يحتاج إلى سلطان، كان طلب حيازة السلطان الممَكِّن من تحكيم الشريعة واجباً بالتبعية لوجوب تحكيم هذه الشريعة الإلهية.
ولاعتبارات سياسية واجتماعية، وداخلية وخارجية، فإن حيازة هذا السلطان ظلت في أغلب الأحيان متعذرة على حَمَلَة المرجعية الإسلامية، بل صارت معرفة خصومهم بمكان حيازة السلطان من مشروعهم هي نفسها حجة استضعافهم والتسلط عليهم، وهو ما حدا ببعضهم إلى التخلي عن حيازة السلطان هدفاً لحَمَلَة المرجعية الإسلامية، وحتى صار عنده من السياسة ترك السياسة.
وبعد الثورات العربية توفر مجال صحي - وإن بصورة نسبية - لكي يعرض الإسلاميون مشروعهم الإصلاحي، ومنذ لحظة عرض المشروع وحتى توسد بعضهم للسلطة بالفعل مروراً بكل مراحل الوصول للسلطة من خطاب إعلامي ومسار انتخابي، كان السؤال الأبرز هو سؤال التدرج؟
ويطرح هذا السؤال عادة للإجابة عن سؤال آخر يتم طرحه وَفْق خلفيتين فكريتين:
الأولى: تسأل عن الطريق الذي سيسلكه الإسلاميون لتطبيق الشريعة، وهل سيحملون الناس عليها قسراً ولو لم يرضها الناس منقلبين على الديمقراطية التي كانت وسيلة توسدهم للسلطة؟
الثانية: تسأل عن الطريق الذي سيسلكه الإسلاميون لتطبيق الشـريعة وهل سيعطلون شريعة الله استسلاماً لضغوط الشعب وتسليماً بمقتضيات الديمقراطية رغم مصادمة هذه المقتضيات للمرجعية الإسلامية، وهو ما يخالف التقييد الذي على أساسه توسل الإسلاميون بالديمقراطية.
فالمجموعة الأولى تسأل عن صورة تحكيم الشـريعة خوفاً من أن يتم الانقلاب على الديمقراطية لحساب تحكيم الشريعة، والمجموعة الثانية تسأل عن صورة تحكيم الشـريعة خوفاً من الاستسلام للديمقراطية على حساب تحكيم الشريعة.
وهنا يجيب الإسلاميون - غالباً - بأنهم سيستعملون آليـة التـدرُّج ليبـرز سؤال التدرج ما هو وما هي حدوده ومعاييره ومجالاته؟
وتحاول هذه الورقة استكشاف بعض معالـم الجواب عن هذا السؤال، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: التدرج لغة: قال ابن فارس: «الدَّالُ وَالرَّاءُ وَالْجِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مُضِيِّ الشَّيْءِ وَالْمُضِيِّ فِي الشَّيْءِ»[1].
فلفظ (درج) دال على المشي والمضي.
وأما (درَّج) بالتشديد فقال في اللسان: «وَيُقَالُ: دَرَّجْتُ الْعَلِيلَ تَدْريجاً إِذا أَطعمته شَيْئاً قَلِيلاً، وَذَلِكَ إِذا نَقِهَ، حَتَّى يَتَدَرَّجَ إِلى غَايَةِ أَكله، كَمَا كَانَ قَبْلَ الْعِلَّةِ، دَرَجَةً دَرَجَة»[2].
فهو دال على التأني في تناول الشيء أو بلوغه، و (تدرج) مُطَاوع دَرَجه وَإِلَيْهِ تقدم شَيْئاً فَشَيْئاً وَفِيه تصعد دَرَجَة دَرَجَة[3].
فجماع دلالات التدرج: أنه أَخْذ الأمر شيئاً فشيئاً لا دفعة واحدة.
ثانياً: أنواع التدرج:
التدرج ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: التدرج في التشريع، ومعناه: أن يكون مقصود المشرِّع تشريع صورة معينة لكن يتوسل إليها بتشريع مؤقت قاصر عن الصورة المقصودة ثم يتدرج المشرِّع حتى يصل إلى صورة المنع التي كانت مقصودة له أول الأمر.
ومن أشهر أمثلته التدرج في تشريع الخمر على أربع مراحل.
النوع الثاني: التدرج في إبلاغ الصورة التشـريعية، ومعناه: بيان بعض الدين والحق والسكوت عن بيان بعضه إلى أن يحين وقته.
ومن أشهر أمثلته حديث معاذ المشهور لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم أهل كتاب.
النوع الثالث: التدرج في التنفيذ: وفيه تكون الصورة التشـريعية معلومة بينة ولكن يُسكت عن إنفاذها وتحقيق مقتضياتها.
ومن أشهر أمثلته ما وقع من الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ فَإِنَّهُ جَاءَ إلى الحُكْمِ بعدَ مظالِـمَ اقترفَهَا بعضُ الذينَ سبقُوهُ، فتدرَّجَ في الإصلاحِ ولَـمْ يتعجلْ في التغييرِ، فدخلَ عليه ولدُهُ عبدُ الملِكِ، فَقَالَ لَهُ: «يَا أَبَتِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَمْضِيَ لِـمَا تُرِيدُهُ مِنَ الْعَدْلِ؟ فَوَاللهِ! مَا كُنْتُ أُبَالِي لَوْ غَلَتْ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ فِي ذَلِكَ».
قَالَ: «يَا بُنَيَّ ! إِني إِنَّمَا أُرَوِّضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْيِيَ الْأَمْرَ مِنَ الْعَدْلِ، فَأُؤَخِّرَ ذَلِكَ حَتَّى أخرجَ مَعَهُ طَمَعاً مِنْ طَمَعِ الدُّنْيَا، فَيَنْفِرُوا مِنْ هَذِهِ وَيَسْكُنُوا لِهَذِهِ»[4].
ثالثاً: دواعي التدرج والتحديات الموجبة لاستعماله عند من يستعمله:
تدور دواعي التدرج على ثلاثة أشياء:
1 - العجز عن إنفاذ الشريعة والإلزام بها.
2 - القدرة على إنفاذ الشريعة، ولكن مع غلبة مفسدة ترك التدرُّج على مصلحة الإلزام بالشريعة.
3 - القدرة وقلة المفسدة، ولكن إرادة صاحب السلطان الرفق بالناس وتهيئتهم وحُسْن سياستهم.
هذه ثلاث علل يتم التعلُّل بها عند إرادة التدرج، والمقصود أنها علل ممكنة لدعوى التدرج، وقد صلحت بالفعل للقول بالتدرج في حالات معينة، وليس المقصود صلاحيتها للقول بجواز التدرج شرعاً من غير اعتبار للموازنة بين الدواعي والموانع في الحالات المخصوصة.
رابعاً: رؤية التيارات الإسلامية حول التدرج:
سأكتفي هنا لضيق المقام بذكر ما يمثل رأي جماعة الإخوان المسلمين في مصـر، ثم ما يمثل رأي الدعوة السلفية بالإسكندرية، ثم رأي الدكتور حازم أبو إسماعيل مرشح الرئاسة في مصر.
1 - الإخوان المسلمون:
• نشر الدكتور عطية فياض على موقع جماعة الإخوان المسلمين بحثاً حول التدرج، قرر فيه منع تدرج التشريع وجواز استعمال التدرج في البلاغ والتدرج في التطبيق والتنفيذ مع ذكر قواعد حاكمة[5].
• في تصريحات للدكتور محمد سعد الكتاتني أمين عام حزب الحرية والعدالة ورئيس مجلس الشعب بعد ذلك قال فيها: «في حال وصول الحزب لسُدَّة الحكم في البلاد؛ فلن يمنع الخمور بالمنازل أو الفنادق، ولن يحجب المواقع الإباحية، ولن يطبق الحدود، ولن يتدخل في تصرفات السائحين على الشواطئ».
ونفى الكتاتني سعي الجماعة لتطبيق الحدود فور وصولها للحكم، وأن الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن هذه النقطة؛ مستشهداً بتصرُّف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما أوقف تطبيق الحدود في عام المجاعة[6].
2 - الدعوة السلفية بالإسكندرية:
يقول الشيخ ياسر برهامي: «... فالتدرج المبني على القدرة والعجز مشروع، فما عجزنا عنه لا نؤمر بتطبيقه، وما قدرنا عليه وجب علينا تطبيقه. والتدرج المبني على مراعاة المصلحة والمفسدة مشروع أيضاً، مثل: النهي الوارد عن قطع الأيدي في الغزو، وأما التدرج الراجع إلى أهواء الناس؛ فلا شك أنه تضييع للحق وللشرع»[7].
وينص الشيخ عبد المنعم الشحات على أن الفرق بين تصورهم للتدرج وتصور الإخوان يكمن في حرص الدعوة السلفية على بيان الحق كاملاً ثم تنفيذ ما يستطيعونه ويطيقه الناس، أما الإخوان - وَفْق تصوره - فلا يذكرون سوى أنهم لن يفعلوا كذا أو سيفعلون كذا فقط فيظن الناس أن هذا القدر المكتفى به هو الدين كله[8].
3 - المرشح الرئاسي في مصر الدكتور حازم أبو إسماعيل:
يفرق الدكتور بين التدرج الذي يحصره في التدرج التشريعي ويرى أنه انقطع بانقطاع الوحي، وبين الاستطاعة التي يذكر في حدها نفس ما يذكر في النوعين التاليين من التدرج، وإن كان يخص ما يؤذن بها بالضرورة فقط، فيقول: «التدرج غير حد الاستطاعة تماماً، ده حكم فقهي، وده حكم فقهي آخر تماماً، التدرج حرام، يعني إيه حرام؟ يعني خلاص الشرع اكتمل... تطبيق الشريعة فريضة الآن، مش تدرُّج، لأ هي فريضة بأكملها الآن.
كل ما في الأمر أنني عندما جئت أطبق وجدت الذين ستطبق عليهم الشريعة ليسوا سلسين، فعاينت أنني ربما - مثلاً - أجبرتهم على شيء فانتقضوا على الإسلام كله، فأصبح هذا يمثل بالنسبة للحاكم حالة ضرورة، اللي هو تخلف الاستطاعة»[9].
خامساً: المرتكزات الشرعية لتأصيل التدرج:
المراد بالمرتكزات هي الأسس والأصول الشرعية التي يتم بناء القول بالتدرج عليها، وهي أعم من الأدلة؛ إذ تشمل الأدلة وكلام أهل العلم.
المرتكزات ها هنا ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما فيه ممارسة للتدرج في الوحي أو عمل السلف، كما في دلالة خبر معاذ على التدرج في البيان، وتَرْك النبي صلى الله عليه وسلم للكعبة رفقاً بالناس ومراعاة للمفسدة المتوقعة، وما في ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعقوبة المنافقين من تدرج بترك إنفاذ الحكم فيهم للمفسدة الغالبة، وما في قصة يوسف - عليه السلام - وخبر النجاشي - رضي الله عنه - ودلالة ممارسة عمر بن عبد العزيز على التدرج في التنفيذ.
النوع الثاني: المرتكزات التي تُستعمَل كمناط يؤذن بالتدرج فتكون بمثابة العلل في قياس التدرج الذي يمارسه صاحب السلطة على التدرج الذي في الممارسة النبوية أو السلفية.
فمن معاقد الإجماع في هذه المسألة أن في التدرج خروجاً عن الأصل الذي هو وجوب التحاكم والتحكيم والاستجابة والإنفاذ لأمر الله ورسوله:{وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 46] .
يقولُ الدكتورُ القرضاويُّ تحت عنوان: «الأصلُ عدمُ المشاركةِ»: «لا ريبَ أنَّ الأصلَ في هذه القضيةِ ألَّا يُشاركَ المسلمُ، إلَّا في حكمٍ يستطيعُ فيه أن ينفذَ شرعَ اللهِ في ما يوكلُ إليه من مهامِ الولايةِ أو الوزارةِ، وألَّا يخالفَ أمرَ اللهِ - تعالى - ورسولِه»[10].
وهو ما يعني أن الخروج عن هذا الأصل بالتدرج سواء بالتشـريع - إن وجد من يجيزه - أو بالسكوت عن البلاغ أو بالسكوت عن الإنفاذ والإلزام، كل ذلك محوج إلى ما يؤذن به من الشريعة ويخرج المكلف عن رِبقَة الإثم الذي يحل به إن هو خالف أمر الله في ما ذكر.
بحيث يقول صاحب السلطة: سأتدرج ها هنا ولن أبلغ أو لن أنفذ وألزم بشرع الله لوجود علة شرعية يراعيها الشرع فتؤذن بهذا.
من هنا كان القول بالتدرج مؤسَّساً على المرتكزات التالية:
1 - نصوص الشرع الدالة على إيذان الإكراه بارتكاب بعض المحرمات وترك بعض الواجبات.
2 - نصوص الشرع الدالة على إيذان حالة الضرورة بارتكاب بعض المحرمات وترك بعض الواجبات.
3 - نصوص الشرع الدالة على أن الوجوب منوط بالاستطاعة والقدرة.
4 - نصوص الشرع الدالة على أن الحاجة تؤذن بارتكاب بعض المنهيات وترك بعض الواجبات.
5 - نصوص الشرع وقواعده الدالة على الموازنة بين المصالح والمفاسد ودرء المفسدة الغالبة ولو بترك بعض الواجبات وفعل بعض المنهيات التي دونها في المفسدة.
6 - نصوص الشرع الدالة على الرفق بالناس[11].
النوع الثالث: نصوص بعض أهل العلم في تقرير جواز التدرج:
وأسوق لها مثالاً واحداً، وهو قول شيخ الإسلام: «فَأَمَّا إذَا كَانَ الْـمَأْمُورُ وَالْـمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْـمُمْكِنِ: إمَّا لِجَهْلِهِ، وَإِمَّا لِظُلْمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ... فَالْعَالِـمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ؛ قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ، فَإِذَا حَصَلَ مَنْ يَقُومُ بِالدِّينِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَوِ الْأُمَرَاءِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا؛ كَانَ بَيَانُهُ لِـمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ شَيْئاً فَشَيْئاً بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بُعِثَ بِهِ شَيْئاً فَشَيْئاً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَلَـمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً... فَكَذَلِكَ الْـمُجَدِّدُ لِدِينِهِ، وَالْـمُحْيِي لِسُنَّتِهِ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ... وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْـمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ»[12].
سادساً: صفة التدرج المأذون فيه وَفْق رؤية الباحث:
من الجلي أنه من الناحية التنظيرية فإنا لا نعلم أحداً من التيارات الإسلامية يقول بالتدرج في التشريع؛ وإنما غاية كلامهم هو استعمال نوعَي التدرج ( البلاغي - التنفيذي ) ، ولذلك فالذي سأبسطه هنا هو تأكيد بطلان استعمال التدرج التشريعي، مع ذكر صور خفية منه، ثم ذكر بعض الإشارات المهمة لضبط نوعي التدرج الباقيين، ولعلِّي ألخِّص رؤيتي حول هذه القضية في النقاط التالية:
1 - مدار البحث في التدرج بأنواعه إنما هو على قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعلى الأصل المقرر أن «الشَّـرِيعَة جَمِيعهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْـمَفْسَدَةَ الْـمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْـمُحَرَّمُ »[13] ؛ حيث إن ترك بعض المأمور به وفعل بعض المنهي عنه هذا الترك الذي ينتج عن التدرج لا بد أن يكون لتحصيل مصلحة أعظم من مصلحة فعل وإنفاذ المأمور المعيَّن أو لدرء مفسدة أعظم من مفسدة فعل المنهي المعيَّن . ومتى اختل هذا الميزان - كأن يمكن البلاغ أو إنفاذ الشريعة والإلزام بها من غير مفسدة راجحة - لـم يجز التدرج، مع الإقرار بوجود مساحات للاجتهاد في تقرير غلبة المفسدة والمصلحة .
2 - استعمال التدرج في محاله الصحيحة هو نفسه تطبيق للشريعة .
3 - مما يُوسع دائرة الشريعة المطبقة من غير تدرج، الإلحاحُ على بيان الأساس الشرعي لمحاربة الفساد المالي والإداري وطلب صلاح البلاد والعباد وطلب النهوض والرقي بالأفراد والأمم ونحوه من المطالب المتفق على تحصيلها بين الإسلاميين وغيرهم فتكون المطالبة بها وتحصيلها تطبيق للشريعة لا يحوج إلى تدرج .
4 - التدرج التشريعي بمعنى أن يُشرِّع صاحب السلطة تشريعاً جديداً فيه تحليل ما حرم أو تحريم ما أحل الله بدعوى التدرج، حرام ليس في الشرع ما يُسوِّغه، والتشريع حق لله - عز وجل - لا يشركه فيه غيره، ولا يؤذن بارتكابه إلا إكراه محقَّق، وهذا لا يوجد في بابنا لإمكان الانحياز عن السلطة وتركها أصلاً، أو الانعزال عن الحقيبة التشريعية في هذا القطاع براءة لله - عز وجل - ومن الصور الخفية للتدرج التشريعي أن يأتي صاحب السلطة من الإسلاميين إلى جريمة حرَّمها الشرع وعاقب عليها بعقوبة معيَّنة بينما القانون يبيحها أو يخفف عقوبتها فيريد صاحب السلطة أن يضع لها عقوبة مدنية غير العقوبة المنصوصة في الشرع يزعم أنه يتدرج نحو العقوبة الشرعية، وهذا باطل وهو من منازعة الله في التشريع، ويؤدي إلى توطين مبدأ العقوبات المدنية واستبدالها بعقوبات الشـرع، وترك العلمانية صلعاء مقبحة للناس هكذا أحسن من تخفيفها بما يُضِل عن الوحي والشـرع، ومصلحة فرض عقوبة مدنية على الزانية - مثلاً - تنغمر في مفسدة التشريع من دون الله، وفي مفسدة ترقيق استبدال الشريعة في قلوب الناس .
5 - التدرج في البلاغ والتدرج في التنفيذ جائزان، تدل عليهما أدلة الشـرع العامة والخاصة، مع التنبيه إلى أنهما بمنزلة العفو والسكوت لا بمنزلة التحليل والتشـريع، ولذلك يقول شيخ الإسلام في حد هذا التدرج: «الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ».
6 - ترك الإلزام بالشريعة في زماننا والسكوت عن القوانين الوضعية وعدم السعي المباشر لتغييرها أكثره بسبب المفسدة المتوقَّعة من مثل هذا السعي سواء من نفرة داخلية أو ضغط دولي خارجي، ومراعاة غلبة المفسدة في ذلك نص عليها العلماء، فيقول شيخ الإسلام: «والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه . فمتى أمكن إقامتها مِن أمير لم يُحتَج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومِن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه»[14].
7 - إلا أن عدم السعي المباشر لا ينفي السعي التدريجي فما لا يدرك كلُّه لا يترك جلُّه والميسور لا يسقط بالمعسور، واستعمال آليات الديمقراطية والتشريع البرلماني في ذلك جائز من باب الحاجة والضرورة على أن تكون صياغة ذلك هي المطالبة بإنفاذ شرع الله في ذلك تحاكماً للمادة الدستورية القاضية بمصدرية الشريعة، ولا يصاغ ذلك في صورة مدنية تُخضِع الشريعةَ فيه للتصويت من جانب المطالب مع جواز التصويت إن طرحها غيرنا .
8 - التأمل في كيف ترك النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة على حالها مراعاة لحال قريش، وكيف ترك عقوبة المنافقين لغلبة المفسدة، ثم حرصه على أن تُحدَّ المرأة المخزومية يدل على وجوب النظر في كل حكم شرعي بحسبه وألا يجعل التدرج وقانونه وأصوله قواعد كلية تطبَّق على فترة زمنية شاملة أو نظام حكم بأكمله؛ وإنما يجب على المجتهد النظر في كل حكم يريد أن يترك بلاغه أو إنفاذه بدعوى التدرج، وأن يكون هذا النظر في كل حكم على حدة، وأن يوزن كل حكم وما يقترن به من دواعٍ للتدرج وموانعٍ منه وزناً خاصاً ليُخرَج بحكم تبرأ الذمة به ويستحق صاحبه أجر الاجتهاد أصاب أم أخطأ . أما غير ذلك من الأقوال المطلقة في ترك إنفاذ شريعة الله أو إبلاغها بدعوى التدرج ومن غير اجتهاد خاص متأنٍّ؛ بل بعضها باجتهاد على الهواء لم تستغرق مدته سوى ما بين انتهاء سؤال المذيع التليفزيوني إلى بداية الإجابة ... كل ذلك عبث بالشريعة وتلاعب بها .
9 - التدرج في البيان لا يعني النطق بالباطل، ولا يجوز ذلك إلا في حدود ضيقة وأكثر المأذون فيه هو السكوت . أما عبارات من نوع لن نمنع كذا، ولن نمنع كذا كما ورد في عبارة الدكتور الكتاتني فلا بد من اقترانها ببيان ما يعتقده من تحريم الله لذلك وأن هذا الترك للمنع إنما هو تنفيذي وليس إقراراً لحق .
10 - أن الحاجة للتدرُّج في حكم من الأحكام أو بعض الأحكام يحتاج حاجة ماسَّة إلى معرفة تامَّة بالواقع الذي تتشابك فيه العلاقات من شؤون اجتماعية واقتصادية وسياسية داخلية وخارجية؛ لأن هذه المعرفة هي وحدَها التي ستمكِّننا من تقدير المفاسد المترتبة على ترك التدرُّج أو على التدرُّج والحاجة إليه، لمعرفة ما إذا كان التدرُّج واجباً أو غير جائز . وهذا يبيِّن الضرورة القصوى لمعرفة العالم الشرعي بالواقع؛ لأن جزءاً من أحكامه لا يتم تصوُّر مسائلها إلا بإدراكٍ كاملٍ للواقع محلِّ الحكم [15] .
11 - حد المفسدة الغالبة التي تؤذن بترك الإلزام بالشريعة، هو أن يؤدي الإلزام لنفرة شعبية تفسد أمور البلاد وتعظم فتنتها . أما إن كان مَن في السلطة غالباً مسيطراً فلن تحصل هذه النفرة سوى بصورة لا تؤثر ولا تعظم مفسدتها، فيجب عليه الإلزام بالشـريعة مع الرفق في هذا الإلزام وليس الرفق الذي يؤدي لترك الإلزام . يقول شيخ الإسلام: «فليس حُسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْـحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] ، وقال - تعالى - للصحابة:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه؛ لكن ينبغي له أن يرفق بهم في ما يكرهونه؛ ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه»[16]
الهوامش:
[1] معجم مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (ت 395هـ): (2/275)، وانظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصـر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (ت 393هـ): (1/313).
وانظر: كتاب العين، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت170هـ): (6/77).
وتهذيب اللغة، لمحمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (ت 370هـ): (10/338).
[2] لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعي الإفريقي (ت 711هـ): (2/267).
[3] المعجم الوسيط، لمجمع اللغة العربية بالقاهرة: (ص277).
[4] صحيح: أخرجه الخلال في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (ص37) تحقيق الشيخ مشهور حسن والشيخ هشام السقا - ط/المكتب الإسلامي دار عمار (1990م).
[5] http://www.ikhwanonline.com/new/Article.aspx?ArtID=94868&SecID=360
[6] في حواره مع جريدة الأهرام اليومية، في عددها الصادر صباح يوم (السبت) (10/ 12/ 2011 م).
[7] موقع أنا السلفي (1/ 12/ 2001 م)
http://anasalafy.com/play.php?catsmktba=31219
[8] حلقة على قناة الناس (يوتيوب)
http://www.youtube.com/watch?v=wcD_3W-F9ks
[9] درس في مسجد (يوتيوب).
http://www.youtube.com/watch?v=wwmLocZXC1k
[10] من فقه الدولة في الإسلام، ص178.
[11] انظر تفصيل هذه الأدلة في بحثي: «واقع المسلمين بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين».
[12] انظر: مجموع الفتاوى: (20/57 - 61). وقد سقت كلام الشيخ تاماً ونصوصه في هذا كاملة في كتابي سابق الذكر.
[13] انظر: مجموع الفتاوى: (29/49).
[14] مجموع الفتاوى: (34 / 176).
[15] بتصرف من مقال قصير للشيخ الشريف حاتم العوني بعنوان: «تطبيق الأحكام بين التدرج والهجوم».
[16] مجموع الفتاوى: (28/364).

موقف الصحابة رضي الله عنهم من معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما

موقف الصحابة رضي الله عنهم
من معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما...
سلطان بن عبدالرحمن العميري
لعل الصحابي معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- يعد من أكثر الشخصيات الإسلامية التي دار حولها الجدل في التاريخ.
فقد اختلفت فيه المواقف وقامت حول تقييم شخصيته معارك فكرية طاحنة، وزاغ فيه طرفان: طرف غلا في حبه والانتصار له، وطرف غلا في بغضه وكرهه والتحذير منه، بل وصل إلى الحكم عليه بالكفر والنفاق!!
وهذان الطرفان وجدا منذ زمن مبكر في التاريخ الإسلامي، وفي وصف حالة الصراع بين هذين الطريقين يقول المؤرخ الذهبي في كلام هادئ ومتعقل: "وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك.
وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشؤوا على النصب، نعوذ بالله من الهوى، كما قد نشأ جيش علي رضي الله عنه، ورعيته - إلا الخوارج منهم - على حبه والقيام معه، وبغض من بغى عليه والتبري منهم، وغلا خلق منهم في التشيع "(1).
وبلغ الحال بالأطراف الغالية في معاوية إلى درجة أن كل طرف حاول أن يضع أحاديث على لسان النبي صلى الله عليه السلام يقوي بها موقفه، ولكن هذه العملية الدنية لم تنطل على علماء الحديث فتنبهوا لها وحذروا منها، وكشفوا عن حقيقتها، ومحصوا الحديث الصحيح من الضعيف مما روي في شأن معاوية رضي الله عنه.
وفي التنبيه على ذلك يقول ابن الجوزي: "قد تعصب قوم ممن يدعى السنة فوضعوا في فضله أحاديث ليغضبوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح"(2).
وتوسعت موجة التزييف المتعلقة بمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- فشملت كتب التاريخ والآثار والقصص والأدب، فالقارئ لهذه الكتب يجد أمامه كماً هائلاً من الأخبار المنقولة عن معاوية إما مدحاً فيه وإطراءً من قِبَل الغالين في حبه، وإما ذماً فيه وتقبيحا له من قِبَل الغالين في بغضه.
الواجبات المنهجية في مثل هذا الحال:
وفي مثل هذه الحال يتحتم على الباحث الصادق مع نفسه ومع فكره أن يتصف بقدر كبير من الهدوء النفسي، وأن يلتزم بترسانة صلبة من الأصول العقلية والمنهجية؛ حتى لا يقع في التناقض أو الانتقاء أو الاختزال، وكل هذه الأمور مخالف للمنهجية العلمية الصحيحة.
ومن أهم ما يجب على الباحث الالتزام به هو أن يدخل إلى البحث بنفسية "الاحتياط الشديد"، التي تجعله لا يقبل أية فكرة إلا بعد التأكد من صحتها في ذاتها والتيقن من فهمه لمدلولها السياقي والتاريخي؛ حتى يتمكن من الخروج برؤية واضحة ومتوافقة مع حال الشخص المختلف فيه.
ولا يصح عقلا ولا منهجا أن يتساهل الباحث في اتخاذ الموقف من غير أن يحقق الاحتياط ويتأكد من كل بياناته.
وهذا الحكم ليس خاصاً بمعاوية بن أبي سفيان، بل هو قاعدة ومبدأ علمي يطبق على كل إنسان ولو كان من غير المسلمين، فإنه لا يصح في العقل ولا في المنهج العلمي الصلب أن يتخذ الباحث موقفاً من أرسطو مثلا – وهو من الشخصيات التي دار حولها جدل كثير -، ولا من مارتن لوثر – وهو أيضا ممن احتدمت المواقف حوله – إلا بعد أن يحتاط في بحثه ويتأكد من صحة الخبر الذي اعتمد عليه ومن صحة فهمه لكل البيانات المنقولة، حتى يتمكن من بناء الموقف العادل.
ومع كون هذه القاعدة عامة في كل الناس، إلا أن أهميتها تزداد، ويقوى وجوب الأخذ بها إذا تعلق الأمر بالصحابة -رضي الله عنهم-؛ لما لهم من الشرف والمكانة واللقيا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والعيش معه، فهناك نصوص وأدلة عقلية وحالية وتاريخية تدل على أن الأصل فيهم العدالة والصدق والأمانة وقوة اليقين، وقد فصلت ذلك في بحث منشور في عدد من المواقع الالكترونية بعنوان (المدخل المنهجي للتعامل مع جيل الصحابة).
ولأجل تلك الثناءات الشرعية والمعطيات العقلية والتاريخية كان للصحابة قدر كبير في نفوس المؤمنين ولهم من الحب والتقدير والاحترام شيء كبير جداً، وتعامل المسلمون معهم بقاعدة حسن الظن والسلامة من القوادح إلا بدليل قوي وظاهر، ولهذا كانت ساحة الصحابة خطرة جداً، ولا يجوز أن يخوض فيها المسلم بغير علم وعدل واحتياط وتأكد وتريث وسلامة صدر.
وهذه المعطيات هي أحد المرتكزات التي أقام عليها علماء أهل السنة رأيهم في الأمر بالكف عما شجر بين الصحابة -رضي الله عنهم- من خلاف، فرأيهم ذلك لم يكن مجرداً من الحجج الداعمة ولا خالياً من المؤكدات، إنما هو منسجم مع الدلالات الشرعية والتاريخية والعقلية الدالة على فضل الصحابة وعلو شأنهم وسلامة حالهم.
والتقرير السابق يؤكد على أن الاحتياط والتأكد في شأن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- يجب أن يكون أقوى وأعلى؛ لأنه أولاً من الصحابة -رضي الله عنهم-, ولأن الخلاف محتدم حوله، وهذا يتطلب قدراً زائداً من الاحتياط الشديد.
ولكن هناك من لم يلتزم بقاعدة الاحتياط الشديد في التعامل مع الصحابي معاوية -رضي الله عنه-، فأخذ يتساهل إما في الثبوت أو في الفهم، واعتمد على قصص وأخبار منقولة في ذم معاوية وبنى عليها أحكاما جائرة.
ومن أمثلة ذلك: القول بأن معاوية كان يبيع الأصنام للهند في زمن عثمان -رضي الله عنه-، والقول بأن معاوية كان يشرب الخمر، وغيرها من التهم، بحجة أن هذه الأخبار رواها عدد من العلماء في مؤلفاتهم الحديثية أو التاريخية.
وكلنا يعرف أنه ليس كل ما ذُكر في كتب التاريخ والأخبار صحيحاً مقبولاً، بل فيها من الضعيف والباطل الشيء الكثير، وفضلاً عن ذلك فإنا لو قمنا بفحص تلك الأخبار المنقولة في ذم معاوية فإننا سنكتشف أنها أخبار باطلة في أسانيدها وفيها من العلل الحديثية ما يدل على بطلانها(3)، فضلا عما فيها من مخالفة للأحاديث الصحيحة التي ثبتت في فضل معاوية -رضي الله عنه-، فضلا عما يخالفها من الأدلة العقلية التي سيأتي ذكرها في أثناء البحث.
وهذا التساهل سيؤدي بنا إلى نتائج باطلة مخالفة للمنهجية العلمية؛ لأن ذلك التساهل سيفتح الباب أمام من يغلو في معاوية ليستدل بالأخبار الضعيفة على إثبات فضائل لا تثبت له، وهذا أمر غير مقبول؛ لأنه كما أنه لا يصح التساهل في إثبات القوادح في الشخص المختلف في حاله فإنه لا يصح التساهل أيضا في إثبات الفضائل له.
ويفتح الباب أمام من يبغض علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة ليستدل بأخبار وآثار ضعيفة وغير محققة ليقدح بها في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والطريقة المنهجية الصحيحة هي أن نلتزم بالاحتياط الشديد في كل ما يتعلق بالصحابة -رضي الله عنهم- وخاصة من وقع الجدل والاختلاف في حالهم، فلا نثبت لهم من الفضائل إلا ما هو مُتَحقق من صحته وثبوته، ولا نثبت لهم من الذم إلا ما هو مُتَحقق من ثبوته.
وهذا كله يدل على أن الخلل والمشكلة عند المتساهلين والمغالين في ذم معاوية -رضي الله عنه- ليست في الأمثلة الفردية التي يسوقونها، وإنما في منهجية التفكير لديهم وفي أصول المنهجية الخاطئة فنحن لا نحتاج في تاريخ معاوية إلى مزيد تفصيل، ولا إطناب في سوق الأخبار وإنما نحتاج إلى تصحيح الموازين في بناء المواقف وإلى بيان المداخل التي يؤتى من قِبَلها أحكام الناس على الحوادث والرجال فنصاب بالخلل والاضطراب والظلم والجور.
كيف نبني موقفاً عادلاً من معاوية -رضي الله عنه- ؟!
يتميز جيل الصحابة -رضي الله عنهم- بخاصية لا توجد لغيرهم، وهي أنهم عاشروا النبي -صلى الله عليه وسلم- وعاشوا معه والتقوا به وتحدثوا إليه وتحدث إليهم وسافر معهم وسافروا معه وارتبطوا به بعلاقات عديدة، سواء من آمن قبل الفتح منهم أو بعده، وهذا الحال التعايشي يستلزم بالضرورة أن يصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- مواقف وأحكام ومشاهد تتعلق بمن عاش معه.
ولهذا فإن أفضل طريق وأسلم سبيل وأتقن مسلك لبناء موقف عادل عن الصحابة هو الرجوع إلى ما جاء في نصوص الشرع المطهر عنهم، فإنه سيكون بلا شك أصدق برهان وأعلى بيان.
وليس هناك من شك في أن معاوية بن أبي سفيان جاءت في شأنه أخبار عديدة تدل على فضله ومنقبته، ومن ذلك: كونه كان كاتبا للنبي -صلى الله عليه وسلم-(4)، ومن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن معاوية: " اللهم اجعله هاديا مهديا"(5)، ومن ذلك: حديث أم حرام بنت ملحان قالت سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا »، قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال: «أنت فيهم». ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم »، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال: لا"(6).
فهذه النصوص الصحيحة وغيرها استنبط منها علماء أهل السنة عددا من مناقب معاوية وفضائله، وشرحوا ذلك في مؤلفاتهم الحديثية والعقدية.
ومن الطرق العميقة والمتقنة التي تساعد على بناء المواقف العادلة من الأشخاص: البحث في مواقف أصحابه وأقرانه ومن عاشوا معه وخبروا حاله، وتزداد أهمية هذا الطريق إذا كان الأصحاب هم الصحابة -رضي الله عنهم-، فإنهم الأتقى قلوبا والأزكى نفوسا والأعلم بدين الله والأكرم أخلاقا والأحرص على شريعة الله والأشجع في بيان الحق والكشف عن الباطل، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، فمواقفهم من الأشخاص ستكون بالضرورة هي الأعدل والأصح والأكمل.
وبالتالي فإن من أفضل الطرق في معرفة حال معاوية -رضي الله عنه- هو أن نتعرف على مواقف الصحابة منه.
فما هي مواقف الصحابة من معاوية؟
إذا رجعنا إلى مواقف الصحابة الصحيحة نجدها تدل على فضل معاوية وكرمه وحسن سيرته وتكشف عن رضاهم عنه وعن ولايته، وتدل على نقيض ما ينسبه إليه الغالون المبغضون له من الكفر والنفاق والفسق والخداع.
فعمر بن الخطاب ولى معاوية خلفا لأخيه يزيد بعد موته على الشام، وهو آنذاك ثغر من ثغور المسلمين(7).
وقد بين عمر بن الخطاب منزلة أمرائه على الأمصار قبيل وفاته فقال: " اللهم إنِّي أُشهدك على أمراء الأمصار، وإنِّي إنَّما بعثتُهُم عليهم لِيَعدلوا عليهم، ولِيُعلِّموا الناسَ دينَهم وسُنَّةَ نبيِّهم -صلى الله عليه وسلم-، ويَقسموا فيهم فَيْئَهُم، ويَرفَعوا إلَيَّ ما أشكلَ عليهم مِن أَمرِهم"(8).
فقد وثق عمر في معاوية ورضيه واليا على ثغر من ثغور المسلمين، فلو كان معاوية كافرا أو منافقا أو فاسقا أو غير مأمون الديانة، فهل يقبل به عمر أميرا له على المسلمين، فإذا كان عمر لم يرض بكافر أن يكون كاتبا عند بعض أمرائه فكيف يولي من هو كافر منافق ؟!
وقد توقف عدد من العلماء عند موقف عمر هذا، وعدوه دليلا ظاهرا على إيمان معاوية وحسن سيرته، وفي هذا يقول الذهبي: " حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم – وهو ثغر – فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك"(9).
ويكشف ابن تيمية عن دلالة فعل عمر بكلام مطول فيقول: " لما مات يزيد بن أبى سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة وأخبرهم بالرجال وأقومهم بالحق، وأعلمهم به... ولا استعمل عمر قط، بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقا، ولا استعملا من أقاربهما، ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم، بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتى تظهر صحة توبتهم، وكان عمر يقول لسعد بن أبى وقاص وهو أمير العراق: لا تستعمل أحدا منهم ولا تشاورهم في الحرب، فإنهم كانوا أمراء أكابر مثل طليحة الأسدي والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والأشعث بن قيس الكندي وأمثالهم، فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم على المسلمين، فلو كان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان وأمثالهما ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا على المسلمين"(10).
وأما علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فإن مواقفه الصحيحة تدل على أنه لا يحكم على معاوية بالكفر والنفاق، بل يعده مسلما عدلا، وتدل على أنه حفظ لمعاوية صحبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- واعتبر له اجتهاده، فقد دارت بينه وبين معاوية حرب ضارية دامت خمس سنوات، أزهقت فيها أنفس كثير من المسلمين وأهلكت فيها أموالهم، فلو كان علي يعرف من معاوية كفرا أو نفاقا أو فسقا أو استخفافا بالدين أو عدم مبالة به أو بيعا للأصنام أو شربا للخمر لذكره وكشفه للناس وبينه لهم حتى ينصرف الناس عن القتال والحرب، ويقي بذلك دماء المسلمين، ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك.
بل ثبت عنه أنه قال: " قتلاي وقتلى معاوية في الجنة"(11)، وكان يدعو لأهل الشام بالمغفرة.
ولو قارنا بين حال علي -رضي الله عنه- مع الخوارج وبين حاله مع معاوية وأهل الشام لوجدنا في ذلك دليلا قويا على حسن موقفه من معاوية، فإن عليا كان فرحا بقتاله للخوارج وكان يحدث الناس بالأحاديث التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام في شأنهم ويقسم لهم بذلك؛ لأنه يرى أن قتاله معهم مشروع مع أنه لم يكن يكفرهم، ولكنه في قتاله مع أهل الشام لم يكن كذلك، ولم يظهر الفرح بذلك بل كان مترددا نادما حزينا على ما أهرق فيها من دماء المسلمين(12)، ولم يوافقه على قتاله معهم كثير من الصحابة واعتزلوا الفتنة.
فلو كان معاوية كافرا أو فاسقا أو منافقا، فلماذا لم يكن علي فرحا بقتاله، ولماذا لم يشارك كثير من كبار الصحابة في القتال ؟! هل يعقل أن تقوم حرب بين مسلم وكافر ثم لا يشارك الصحابة مع المسلم في قتال الكافر؟!!
وإذا انتقلنا إلى موقف الحسن بن علي -رضي الله عنه- نجده كذلك يدل على ما يدل عليه صنيع أبيه، فإنه تنازل لمعاوية عن الحكم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أثنى على هذا الصنيع وبشر به، فقال: " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "(13).
وقد وافق الحسن من كان معه من الصحابة كأخيه الحسين وغيره، وفي بيان هذا يقول الأوزاعي: " أدركتْ خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم: سعد وأسامة وجابر وابن عمر وزيد بن ثابت ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد ورافع بن خديج وأبو أمامة وأنس بن مالك، ورجال أكثر ممن سمينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيله، وأخذوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تأويله، ومن التابعين لهم بإحسان -إن شاء الله- منهم: المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وسعيد بن المسيَّب وعروة بن الزبير وعبد الله بن محيريز، في أشباه لهم لم ينزعوا يداً عن مجامعة في أمة محمد"(14).
فلوا كان معاوية كافرا أو منافقا أو فاسقا كيف يصح للحسن وللصحابة معه أن يتنازلوا بالولاية له ؟!!، وكيف يمتدح النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الصنيع ؟!!، وكيف لهؤلاء الجلة من الصحابة والتابعين أن يتواردوا على السكوت عن الكفر والنفاق والفسق ؟!!
وأما ابن عباس -رضي الله عنهما-، فقد قيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة ؟ فقال -رضي الله عنه-: "إنه فقيه"(15)، وكان يقول عن معاوية: "ما رأيت رجلا كان أخلق للملك من معاوية"(16).
فها هو ابن عباس وهو من آل البيت وممن كان مع علي، يصف معاوية بتلك الأوصاف، فهل من المقبول عقلا أن يقول هذا القول في رجل يراه كافرا أو فاسقا أو منافقا؟!
والذي يستقرئ حال مجمل الصحابة ومواقفهم من معاوية قبل ملكه وبعده يجد أنها تسير على وتيرة واحدة، وأنه كان يسود بينهم حالة من الرضا والقبول لدينه وحكمه.
وقد مدحه عدد من أجلة الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وأبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وعائشة -رضي الله عنهم-، وأخبارهم في هذا صحيحة مشهورة فهل من المقبول عقلا أن يتوارد كل هؤلاء الصحابة على كتمان العلم وبيان حال معاوية لو كان عنده ما يقدح في دينه وأمانته؟!
بل روى ابن سعد عن أم علقمة أنها قالت: قَدِمَ معاويةُ بن أبي سفيانَ المدينة، فأرسلَ إلى عائشةَ: أن أَرْسِلي إليَّ بأنبجانيَّة رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وشَعْرِه، فأَرْسَلَتْ به معي، حتى دخلْتُ به عليه، فأخذَ الأنبجانيةَ فَلَبسَها، وأخذَ شَعْرَه فدعا بماء فَغَسلَه، فشَرِبَه وأفاضَ على جِلْدِه"(17).
فلو كان معاوية كافرا أو منافقا لما أرسلت إليه عائشة أنبجانية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولما امتنعت من ذلك.
ثم إنه قد روى عنه عدد من الصحابة الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد جمع أبو نعيم الأصفهاني عددا منهم فقال عن معاوية: " حدث عنه من الصحابة: عبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وجرير والنعمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ووائل بن حجر وعبد الله بن الزبير"(18)، وقد أحصى بعض الباحثين ثلاثا وعشرين صحابيا رووا عن معاوية الحديث، وبعض هذه الأسانيد جاءت في البخاري ومسلم(19)، وقد نص عدد من العلماء من أهل الاستقراء على أنه ليس هناك أحد من الصحابة والتابعين كان يتهم معاوية بالكذب وفي هذا يقول ابن تيمية عن معاوية وعمرو ابن العاص: " ولم يتهمهم أحد من أوليائهم -لامحاربوهم، ولاغير محاربيهم- بالكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله، مأمونون عليه في الرواية عنه"(20).
فلو كان معاوية كافراً أو فاسقاً أو منافقاً أو مقدوحاً في دينه وأمانته فكيف استساغ أولئك النفر من الصحابة الرواية عنه ؟! وكيف صدقوه في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟!
ويدل حال الصحابة على أنهم كانوا لا يسكتون عن أي مخالفة تقع في الدين سواء كانت من معاوية أو من غيره، وقد اختلف أبو ذر -رضي الله عنه- مع معاوية في اكتناز المال، وشدد أبو ذر على معاوية حتى شكاه إلى عثمان، فهل من المعقول أن يكون معاوية متاجرا في بيع الأصنام في زمن عثمان – كما جاء في القصة التي يعتمد عليها الطاعنون- أو كافراً أو منافقاً أو شارباً للخمر أو مستهترا بدين الله ثم يترك أبو ذر وغيره من الصحابة كل ذلك ويقف معه في قضية أقل منها وهي اكتناز المال ؟! ألا يدل اختلافهم ذلك على أن أبا ذر وغيره من الصحابة لم يجدوا عند معاوية ما يوجب له الفسق والكفر وإلا لبادروا على إعلان النكير عليه ؟!
ولما اجتمع معاوية ابن أبي سفيان بكبار الصحابة في آخر أيام خلافته، وهم ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر والحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، ليأخذ منهم الإقرار بولاية العهد لابنه يزيد، أنكروا ذلك عليه ولم يؤيدوه على فعله ورأيه(21)، وهذا يدل على أن الصحابة لو كانوا يرون عند معاوية ما يخالف الدين لما سكتوا عنه ولأظهروا المخالفة له، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.
كيف تعامل الصحابة مع أخطاء معاوية ؟
والتقريرات والدلائل العقلية السابقة لا تعني أن الصحابة كانوا يرون معاوية مبرأ من الخطأ، ولكنَّ أخطاءه عندهم لا تصل إلى الكفر والنفاق والفسق والقدح في ديانته.
فليس هناك شك في العقل أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا يرون أن معاوية مخطئا في قتاله لعلي، وكثير من الصحابة كان يرى هذا الرأي خاصة بعد قتل عمار بن ياسر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ويح عمار تقتله الفئة الباغية ! عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار"(22).
ولكنهم لم يبالغوا في الحكم على معاوية ولم يصدروا أحكاما جائرة، فلم يحكموا عليه بالكفر ولا بالفسق ولا بالنفاق ولا بالقدح في الدين، وإنما عدوه مجتهدا متأولا.
ومن أمثلة مواقف الصحابة من أخطاء معاوية: ما ذكره المسور بن مخرمة رضي الله عنه -وهو من صغار الصحابة- أن معاوية قال له:": يا مِسْوَر! ما فعل طعنُك على الأئمة؟ قال: دَعْنا من هذا وأحسن. قال: لا والله! لَتُكلِّمَنِّي بذات نَفسكَ بالذي تعيبُ عَلَيَّ! قال مسور: فلم أترك شيئا أعيبُه عليه إلا بيَّنت له. فقال: لا أبرأ من الذنبِ! فهل تَعُدُّ لنا يا مِسْوَر ما نَلِي من الإصلاح في أمر العامة -فإن الحسنة بعشر أمثالها- أم تعُدُّ الذنوبَ وتَترُكُ الإحسان؟! قال: ما نَذكرُ إلا الذنوب! قال معاوية: فإنَّا نعترفُ لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفر؟ قال: نعم! قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحقَّ مني؟! فوالله ما ألي من الإصلاح أكثرَ مما تَلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره؛ إلا اخترتُ الله على ما سواه، وإني لَعَلَى دينٍ يُقبَلُ فيه العمل؛ ويُجزى فيه بالحسنات؛ ويُجزى فيه بالذنوب؛ إلا أن يعفوَ اللهُ عنها.
قال: فخَصَمَني!
قال عروة: فلم أسمَع المِسْوَر ذَكَرَ معاويةَ إلا صلَّى عليه"(23).
فهذا الأثر يدل على أن الأخطاء التي ذكرها المسور في معاوية ليست أخطاء كبيرة توجب الكفر أو النفاق أو الفسق، ولو كانت كذلك لما أقره المسور على أنها مغفورة بالحسنات والأعمال الصالحة.
وكذلك عائشة -رضي الله عنها- أنكرت على معاوية قتله حجر بن عدي وأصحابه من أهل العراق، ولكن معاوية بين لها حجته وتأوله، وأنه خشي أن يحدث فتنة في الناس بإعلانه القوى على إمامته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه "(24)، وقال لها: " وأما حجر وأصحابه فإنني تخوفت أمرا وخشيت فتنة تكون تهراق فيها الدماء وتستحل فيها المحارم وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل بي ما يشاء، قالت: تركتك والله تركتك والله تركتك والله"(25).
وهذا الموقف الإعذاري الذي اتخذته عائشة من معاوية هو الموقف نفسه الذي اتخذه أبو بكر وعمر من خالد حين قتل مالك بن نويرة مع أنه أعلن إسلامه، فمع أنهم حكموا بخطئه وأنكروا فعله إلا أنهم لم يفسقوه ولم يكفروه ولم يقدحوا في دينه، ومستندهم في ذلك موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- من أسامة وخالد بن الوليد حينا قتلا من أعلن إسلامه.
مع أنه لا بد من التنبيه على أن قتل معاوية لحجر بن عدي -رضي الله عنه- اشتمل على ملابسات كثيرة جدا، والقصة تحتاج إلى قدر كبير من التحقيق، وليس من قصد البحث تحقيق الكلام فيها، وإنما قصده تحقيق مواقف الصحابة مما وقع فيه معاوية من إزهاق الدم المسلم.
موقف تلاميذ الصحابة من معاوية:
ثم إذا انتقلنا إلى تلاميذ الصحابة وتلاميذ تلاميذهم من التابعين وأتباعهم، وهم الأعلم بمواقف الصحابة والأكثر فقها لآرائهم وأصول مذهبهم والأعمق في تصور عقيدتهم، وهم الأشد حرصا على اتباع الصحابة والتمسك بما كانوا عليه من دين، وهم كذلك أعداد كبيرة جدا، وقد عاش كثير منهم بعد انتهاء دولة بني أمية.
فإنا لو رجعنا إلى مواقفهم من معاوية نجدهم أطبقوا على الثناء عليه والإعلان عن حبه وتقديره واعتقاد عدالته وحسن سيرته، فمن المستبعد عقلا أن تتوارد هذه الأعداد الغفيرة على عقيدة خلاف ما تلقوه من الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن المستبعد عقلا أن تتوارد هذه الأعداد الغفيرة على كتمان الحق الذي تلقوه من الصحابة؟!
تعليق أخير:
فهذه الشواهد التاريخية والدلالات العقلية تُكوِّن لدينا ترسانة علمية صلبة في التعامل مع معاوية -رضي الله عنه-، وتكشف لنا عن حقيقة نظرة الصحابة إليه وتعاملهم معه، وهي لا شك ستعين القارئ في تاريخ معاوية على فهم كثير من النصوص الشرعية التي جاءت في حقه، وتعينه على توسيع أفقه في التعامل مع مشاهد سيرته، ولا يجوز في موازين المنهجية العلمية القفز عليها أو تجازوها ما لم نقدم عنها جوابا مقنعا.
وتعاملات الصحابة تلك تمثل عقبة كبيرة أمام القادحين في معاوية لإقناع المسلمين برأيهم؛ إذ كيف يقتنع المسلمون بأن معاوية كان كافرا أو منافقا أو فاسقا أو فاسد الديانة وهم يعلمون مواقف الصحابة معه ؟!
ولا بد من التنبيه في ختام هذه الورقة التقريرية المختصرة أنه لم يكن القصد منها استيعاب كل ما يتعلق بمعاوية -رضي الله عنه- من النصوص الشرعية وغيرها، وإنما القصد دراسة وتحليل مواقف الصحابة فقط.
ولا بد من التنبيه على أن الغالين في ذم معاوية قد ذكروا أخباراً وآثاراً عديدة تدل في ظاهرها على أن الصحابة كانوا يقدحون في معاوية ويذمونه، ولكن هذه الأخبار كلها ليست صحيحة ولا ثابتة، وقد قام عدد من الباحثين المعاصرين برصد تلك التهم والأخبار وقاموا بدراستها حديثيا وتاريخيا وأثبتوا بطلانها وخطأها، ومن أجمع البحوث التي قامت بذلك كتاب (سل السنان في الذبِّ عن معاوية ابن أبي سفيان)، فقد جمع فيه كل ما أثير ضد معاوية وأجاب عنها جوابا مفصَّلا.
ثم إن ما كان منها صحيحا فإنه لا يدل على مقدار الحكم الجائر الذي وصفوا به معاوية!!
------------------------------------
(1) سير أعلام النبلاء, الذهبي (3/128).
(2) الموضوعات, ابن الجوزي (2/249).
(3) انظر في إثبات ضعف هذه الأخبار: سل السنان في الذب عن معاوية ابن أبي سفيان, سعد السيبعي (197) – نسخة الالكترونية -.
(4) كون معاوية كان كاتبا للنبي عليه السلام أخرجه: مسلم (2501).
(5) أخرجه: أحمد في المسند (17929), والترمذي في السنن( 3843) وابن سعد في الطبقات (7/417),والآجري في الشريعة (1914), وصححه عدد من العلماء.
(6) أخرجه: البخاري (2766).
(7) انظر: البداية والنهاية, ابن كثير (11/399 ) و سير أعلام النبلاء, الذهبي (3/132).
(8) أخرجه: مسلم (567).
(9) سير أعلام النبلاء, الذهبي (3/132).
(10) مجموع الفتاوى, ابن تيمية (35/65).
(11) أخرجه: ابن أبي شيبة (15/303), وسنده صحيح.
(12) انظر خبر ذلك في: مصنف ابن أبي شيبة (39007).
(13) أخرجه: البخاري (2704).
(14) نقله أبو زرعة الرازي في تاريخه (1/189).
(15) أخرجه: البخاري (3765).
(16) أخرجه: معمر في جامعه المطبوع مع مصنف عبدالرزاق( 20985), وإسناده صحيح.
(17) الطبقات الكبرى, ابن سعد (1/112), وسنده لا بأس به.
(18) معرفة الصحابة, أبو نعيم (5/2497).
(19) انظر: سل السنان في الذب عن معاوية ابن أبي سفيان (15).
(20) مجموع الفتاوى, ابن تيمية (35/66).
(21) انظر خبر ذلك في: تاريخ خليفة خياط (213-214).
(22) أخرجه: البخاري (2657).
(23) أخرجه: معمر في الجامع – المطبوع مع مصنف عبدالرزاق(20717), وابن سعد في الطبقات (1/123), وقال ابن عبدالبر عن هذا الأثر:" وهذا الخبر من أصح ما يروى من حديث ابن شهاب" الاستيعاب في معرفة الأصحاب(3/1422), وصححه عدد من العلماء.
(24) أخرجه: مسلم ( 4904).
(25) أخرجه: ابن عساكر في تاريخه (12/230).