مقال ( الأمة أولاً ) عبدالرحمن يوسف
المقال منشور بجريدة الأهرام 20-8-2011 م
يحب الكثيرون أن يمدحوا دولة المؤسسات, وهم حين يفعلون ذلك يسترسلون في المديح حتي يقعوا في بعض الأخطاء التي من الممكن أن تصل بهم إلي هدم الدولة ذاتها. الدولة نائب عن الأمة في إدارة شؤونها, أي أن وجود الأمة أساس وجود الدولة,
ولا معني لوجود الدولة إلا بالأمة, فالأمة هي التي كلفت الدولة بمهامها, وأعطتها شرعية الوجود والتصرف.
هكذا كان الحال في مجتمعاتنا العربية, فالناس موجودون, تتغير الدول وتنهار, والناس في أماكنهم لا يبرحونها, يدافعون عنها ضد كل أجنبي, أيا كان الحاكم, ويعمرون أرضهم في أوقات السلم بكل ما يستطيعون, وهم علي هذا الحال منذ عشرات القرون, تقوم دول وممالك وإمارات, وتسقط دول وممالك وإمارات, والناس صابرون فوق أرضهم, كأنهم علي ثغر لا يبرحونه.
صحيح أن هناك بعض الدول هي الأساس في وجود الشعب, ولكن هذه الاستثناءات قليلة, وهي أيضا من دلائل الانحطاط والانهيار في تاريخنا, وفي واقعنا, وخير مثال علي ذلك هو دول الطوائف في الأندلس, فقد أصبحت دولا لا مبرر لوجودها, وأصبح قيام الإمارة سببا لسوق الناس سوقا إلي تأييد هذه الدولة, بينما الناس ينتمون لكيان أكبر من هذا الكيان, ولكنها السياسة.
يماثل ذلك في عصرنا بعض الدول الصغيرة التي لم تكن موجودة علي الخريطة, ووجدت لكي تقوم بدور معين( تحت عناية الاستعمار الذي رسم الخريطة), وقيام هذه الدول هو ما خلق شعوبها, فلم يكن هناك شعب ينتمي لهذا المكان قبل قيام هذه الدولة, بل كان هذا الشعب ينتمي لكيان أكبر.
أنموذج الدولة القومية حين جاء لبلادنا لم يراع أدوارا كانت تقوم بها الشعوب من تلقاء نفسها, وكانت هذه الأدوار غير محتاجة للدولة لكي تنجز, بل كانت تكفل للأمة قدرا كبيرا من الاستقلال والفعالية والبقاء حتي إذا ضعفت الدولة أو احتلت أو انهارت.
فعلي سبيل المثال لا الحصر كانت منظومة الأوقاف الإسلامية في غالبية الدول تكفل لكل العباقرة تعليما راقيا بدون لجوء للدولة, والأنموذج الناصع علي ذلك أوقاف الأزهر, تلك الأوقاف التي علمت آلاف العلماء علي مدار سبعة أو ثمانية قرون بدون أن تكلف الدولة مليما واحدا, فكان الطالب الذكي يتعلم مجانا تقريبا, بغض النظر عن مدي قوة الدولة أو ضعفها, غناها أوفقرها.
هذه المنظومة دمرت حين قامت الدولة القومية, فتولت الدولة مهمة التربية والتعليم, بما في ذلك رعاية النابهين والعباقرة, وتولت كذلك مهمة تنظيم الأوقاف, ولم تعد الأمور تجري بسهولة كما كانت من قبل, وصار علي كل طالب نابه, أن يدخل داخل دهاليز الدولة, فأصبح عليه أن يرضي أجهزة الأمن, وأن يصبر علي كل روتين الحكومات.
أي أصبح الأمر يعتمد علي مدي قدرة الدولة علي القيام بهذا الدور, وأصبح الطالب تحت رحمة الدولة بكل ما فيها من أجهزة أمنية, وبكل ما فيها من بيروقراطية, وبطء في اتخاذ القرار, وصارت المحصلة أن الطالب لا يتعلم إلا إذا استطاعت الدولة ذلك, مهما بلغ ذكاؤه, وهذا أمر يتضرر منه المجمتع, وتتضرر منه الدولة ذاتها.
بعد قيام ثورتنا المجيدة في يناير, لا بد أن يعود للمجتمع دوره في الحياة المدنية, بدون أن نقضي علي الدولة, ولا شك أن تقوية المجتمع تقوية للدولة, ولا شك أن الدولة العادلة يسرها أن يكون المجتمع قويا, والدولة الظالمة فقط هي التي تخاف قوة المجتمع, لأنها تخاف من الناس, وتحب أن تتحكم فيهم بشتي الأشكال, لذلك تلجأ الدولة الظالمة إلي سد كل أشكال الاستقلال التي يتمتع بها المجتمع, وهي بذلك تقضي علي نفسها.
لا يجوز أن تكون الدولة هي( الكل في الكل), ولا يجوز أن نصل بدرجة احتقار المجتمع إلي درجة وضع الشعوب بكاملها تحت رحمة الدولة, لأن ذلك خطر علي الأمة, وعلي الدولة. لذلك لا بد من إعادة حقوق الأمة للأمة, فلابد أن يتم تحجيم المؤسسات التي تعمل لصالح الدولة ضد الأمة, وستجد أهم هذه المؤسسات هي الداخلية, فهي تعمل لحساب السلطان الظالم دوما, لذلك لا بد من تقويمها, وجعلها خادما للناس لا للسلطان.
ومن هذه المؤسسات أيضا الأوقاف, لأن مهمة الأوقاف في السنوات الأخيرة هي أن تستولي علي ثروات الواقفين, وأن تسيء إدارتها, وأن تفرط أحيانا في الوقف, وأن تدير المساجد بما يشاء جهاز الأمن لا بما يخدم التدين الصحيح.
ومن هذه المؤسسات أيضا التعليم, فلا بد من أن يتمكن الناس من إقامة مدارسهم الخاصة, بإشراف الدولة طبعا, ولكن بدون تدخل عقيم من أجهزة أمنية لا هم لها سوي أن تخرج نسخا مكررة من إنسان مصري ضعيف العقل, عديم الإرادة, مختل الثقافة, مشوه التدين.
إذا حدث ذلك, ستصبح للأمة الكلمة العليا, وسيصبح الحاكم هو الشعب, وستصبح الأمة أولا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق