منهجية الإصلاح في الإسلام بين الأُمَّة والأئمة
أ.د. صلاح الدين سلطان
كنت ولا زلت أتعجب لهذه المكانة العالية التي رفع الله بها أهل العلم إلى مصافِّ الملائكة فقال سبحانه: "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (آل عمران: 18)، ورفع لهم الدرجات فقال سبحانه: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: 11)، وعُدْتُ إلى أرض الواقع بكل آلامه وشجونه وما نعانيه من أزمة تخلف وتبعية وذل ومهانة، وتمزق وتفرق، وتحلل وتحجر، واستيراد واستهلاك، وإسراف وتبذير، وظلم واستعباد، وتدنٍ في الأخلاق، وتسابق في التفاهات، وضياع للضروريات وانفراط في الترفيات، وفقر وجهل ومرض، وعصبية وتطرف، وعنف وغلو، واحتلال أرض فلسطين، وإخراج 6 ملايين من ديارهم، وأسْر 11 ألف رجلاً وامرأة وطفلاً، وتهويد القدس والأنفاق تحت المسجد الأقصى هذا بالإضافة إلى 8 مليون من الأيتام والأرامل خلَّفهم الاحتلال وأعوانه في أرض الرافدين، وبحر الدماء الذي يسيل ثجاجًا في أفغانستان وباكستان والصومال والسودان واليمن، هذا كله جعلني أتساءل بحرقة أين الخلل؟! ومن المسؤول عن هذه الأزمات؟! وإذا كان منطق العقل يقتضي أن هناك جزءًا من المسؤولية على كل مسلم في الأرض، فلا يعفى أحد من المسؤولية، ولكن يبقى السؤال مَنْ المسئولون الأوُّل هل الحكام؟! أم العلماء؟! أم العوام؟!
المسئولون الأوُّل هم العلماء
وقد انتهى بي التفكير إلى أن المسؤولين الأُوَل هم العلماء قبل الأمراء وعموم الأمة، وذلك لأن علماء الأمة الإسلامية هم عقلها الواعي، وقلبها الحي اليَقظ، ولسانها المعبِّر عن تطلعاتها وآلامها، فقد احتلوا موقع الرأس من جسمها، وتربصوا على عروش قلوبها في كل مراحل العافية فيها كما تدل على ذلك النصوص الشرعية والحقائق التاريخية.
لقد أنيط بهم وحدهم حفظ الرسالة بيضاء نقية وقيادة الأمة فكريًا، كما أنيط بهم أن يكونوا الرقيب والناصح لأصحاب الولايات العامة، وأن يتحملوا قيادة الأمة عمليًا عند فساد الأجواء، لذلك كانت حملة الظالمين عليهم أشد، واستهدافهم لشراء ذممهم أعظم وأخطر، ولكن النص المعصوم من الكتاب والسنة دلَّ على أن بقية الخير فيهم قائمة إلى يوم الدين، لتبقى الحجة بهم قائمة على الخلق ما بقيت على الأرض حياة، كما قال الله تعالى: "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ" (آل عمران: 89).
وعندما عُدْتَ أتأمل في هذه الشريحة بشكل خاص وجدت كمًا هائلاً من العلماء الذين عندهم وفرة كبيرة جدًا في العلم والتفسير والحديث والفقه والعقيدة وهم ليسوا عشرات الآلاف بل مئات الآلاف سواء كانوا أئمة متخصصين أو بالممارسة الدعوية ومع ذلك أمتنا راكدة والواجب أن تكون رائدة شاهدة على العالم كله! كما قال تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" (البقرة: 143).
رجعتُ إلى سيد العلماء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتُ أن سيدنا إبراهيم قد دعا ربه كما قال سبحانه: "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (البقرة:129)، فأجابه ربه تعالى بقوله: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" (البقرة: 151)، فوجدتُ أن العلم والتلاوة لابد أن يصاحبهما تزكية لأن العلم يعالج الشبهات لكن مجاهدة النفس هي التي تعالج الشهوات وترسخ الإيمان في القلوب وأول قوم يجب أن يبالغوا ويجتهدوا في تزكية أنفسهم وتهذيب أهوائهم وتنمية قدراتهم هم العلماء.
مقامات العلماء
وبناء على هذه الآية وغيرها يمكن تقسيم العلماء إلى مقامات ثلاثة:
1. المقام الأول: مقام الراسخين في العلم هؤلاء الذين تَبحَّروا في أصول العلم وفروعه، وواصلوا الليل والنهار في القراءة والبحث والتفكير والكتابة، وهؤلاء هم أولوا الألباب كما قال تعالى: "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (آل عمران:7)، فإذا لم يكونوا راسخين في العلم وقعوا في التلبيس والتشويش في فهم الرسالة وفي ضعف البصيرة.
وأحب أن أؤكد أن هناك زخمًا غير عادي في جمع مفردات العلم، والنبوغ في بعض فروع الشريعة وأصول الدين، غير أن جمهرة عديدة من هؤلاء تحوِّل الأمر إلى إثبات ذاتٍ، ودوران حول النفس، ورغبة في الترقية الأدبية والمادية، لكنهم يُسوِّفون الدعوة والتزكية والتربية إلى ما بعد التمكن العلمي والمادي والإداري، لكن هؤلاء يَنْسَوْن أن حركة الماء تُنقيِّه وأن الماء الراكد يفسد ويأسن ويتعفن كما قال الشافعي:
ما في المقام لذي عقـل وذي أدب | ... | مـن راحـة، فدع الأوطان واغترب |
سافـر تجـد عوضـا عمـن تفارقــه | ... | وانصب فإن لذيذ العيش في النصب |
إنـي رأيـت وقـوف الـمـاء يـفسـده | ... | إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يَطِـب |
والأُسْدُ لولا فراق الغاب ما افترست | ... | والسهم لولا فراق القوس لم يُصـب |
والشمس لو وقفت في الفلك دائمـة | ... | لَملَّها الناس من عُجـم ومـن عرب |
والتِّبر كالتُّرب ملقـًى فـي أمـاكنـه | ... | والعود في أرضه نوع من الحطـب |
فــإن تغـرَّب هـــذا عــزَّ مطـلـبه | ... | وإن تغـرَّب ذاك عـــزَّ كـالـــذهـب |
ولا حلَّ لهؤلاء سوى أن يكون الرسوخ في العلم تمكينًا للإسلام لا للأشخاص، ودوران حول الرسالة لا النفس ووصولاً إلى البصيرة المؤهلة للدعوة وليس الشهادة الموصلة للمكاسب والمناصب!.
مقام الدعـاة
2. المقام الثاني: مقام الدعاة الذين لا يكتفون بالتعلم وإنما ينطلقون إلى التعليم، ويبلغون ولو آية، ويحدثون بكل حديث حفظوه، وبكل معنى درسوه، عملا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)[1]، وهؤلاء كما الله تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصلت:33)، فإذا لم يفعلوا وكتموا الحق مهما كان مُرًّا واسترضوا الخلق ونسوا الخالق فإن لعنات الله عز وجل تلاحقهم، كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة: 160)، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كتم علمًا ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)[2]، فإذا كانت هذه الدرجات العالية لمن يُبلِّغ دعوة الله فيقابلها دركات ولعنات لمن يكتم كلمة الله، لأن العلماء يجب أن يتحملوا مسؤوليتهم في بيان الحق وإنكار المنكر دون خشية إلا من الله، كما قال الله تعالى: "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا" (الأحزاب: 39)، وهؤلاء - كما جاء في الآية - الله حسيبهم وهو مولاهم وكافيهم، كما قال الله تعالى: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (الزمر: 36).
مقام الربانيين
3. المقام الثالث: مقام الربانيين المُربيِّن وهؤلاء هم الذين يجاهدون أنفسهم ويصارعون شيطانهم، ويهذِّبون أخلاقهم، ويرتقون بمهاراتهم وملكاتهم وقدراتهم، ثم يصْطَفون النجباء، وينتقون النبلاء، ويرتقون بهم إلى العلياء وهو معنى التزكية التي قال الله عنها: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" (البقرة:151).
وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم واصطفى العشرة المبشرين بالجنة والعبادلة والأخيار من الصحابة فأعدَّهم إعدادًا خاصًا فريدًا فصاروا علماء الأمة وأحبارها، وقادة الجيوش وربانها، والفاتحين المتحركين في جنبات الأرض كلها.
وهكذا يجب أن ينتقل العلماء ذوو البصيرة بين طلب العلم ودعوة الناس من حولهم، ومجاهدة النفس واصطفاء ذوي النبوغ في محاضن تربوية لصناعة القادة الربانيين والعلماء الصالحين المصلحين، فيجتمع لدينا نوعان من الناس:
النوع الأول: نخبة من الأئمة وهم العلماء والقادة الربانيين والحكام الصالحين، وقد أورد الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية قول الشاعر الأوْدي:
لا يصلح الناس فوضى لا سِراة ولا سِراة إذا جُهالهم سادوا
والسِراة هم القادة فلا يصلح أي تجمع دون هؤلاء السِراة.
النوع الثاني: جماهير الأُمَّة من الأتباع الربانيين، فلو أن التمكين للإسلام يُكتفى فيه بالقائد الرباني الفذِّ لحدث التمكين في مكة للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم ولهؤلاء الأخيار من السابقين إلى الإسلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وجعفر وحمزة وخالد بن سعيد وغيرهم، لكن الأغلبية الساحقة كانت كافرة أو معاندة فأُوذي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهاجر من هاجر إلى الحبشة وبقي الإسلام ضعيفًا مطاردًا حتى كثر الخير في يثرب ودخل أكثر أهلها الإسلام، وأرسلوا قادة منهم ومندوبين عنهم، والتقت القيادة بهؤلاء الجمهرة فكان النصر والتمكين في المدينة المنورة، وفي هذا يقول الله تعالى: "وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ" (الأعراف: 86)، ويقول تعالى: "وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ" (آل عمران:146).
إذن لا النخبة وحدها يمكن أن تصل إلى النصر مهما كانوا ربانيين، ولا الكثرة وحدها دون قادة ربانيين يمكن أن ينتصروا، فهذا قانون رباني يوجب أن نعمل به لننال التمكين، كما قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ" (الأنفال:62).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق