بعث الأمـل مهما كان الألـم
أ.د. صلاح الدين سلطان
في واقعنا المعاصر يطول الحديث عن الألم ويقل الحديث إن لم يندر عن الأمل، مما يورث كثيرا من السامعين في الدروس والخطب والمحاضرات والديوانيات والزيارات مزيدا من اليأس والإحباط، وهذا في الواقع يعني أن جيوشا من اليائسين البائسين سيظلون دائما أسيري هذا الإحباط مما يستحيل معه أي تحرك نحو الإصلاح والتغيير. وإذا جدَّ المصلحون في السير إلى الله تعالى، ثم إصلاح مجتمعهم فإنهم يجب أن يبعثوا الأمل قويا، نديا، فياضاً، مستندين إلى هذه الركائز الأربعة وهي:
1. قوة الملك التي لا تقهر .
2. قوة المنهج الذي لا يتغير .
3. تاريخنا الحافل بالانتصارات .
4. واقعنا الماثل بالإيجابيات
ويمكنني أن ألاحظ منهجية بعث الأمل قبل العمل من خلال سورة الكهف فيما يلي :-
1. تبدأ السورة بأعظم رسالة أمل وهي: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدا"ً (الكهف:1-4)، قبل أن تتحدث عن الألم؟ "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" (الكهف:6).
ولاشك أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يأسى كل هذا الأسى ويحزن كل هذا الحزن الذي عبر عنه القرآن بأنه قد يؤدي إلى مرض قاتل، إلا أنه كان يرى من صنوف البلاء والإعراض عن الله ما يجعله يصل إلى هذه الحالة ، ومع ذلك لم يبدأ القرآن بالألم، بل بدأ بالأمل، بالحمد لله ، وأن هذا الحمد يرتكز على هذه الثروة الربانية الكبيرة التي تعين ــ لو وظفناها توظيفاً صحيحاًــ في استدراك كل ما فات ، وعلاج كل داء، وتغيير كل الآفات ، هذه الثروة هي الكتاب الذي ليس فيه عوج بل هو "القيِّم" أي مصدر المعايير الصحيحة الراشدة الهادية إلى الأحسن دائماً ، ثم إن هذه الآيات جمعت بين النذارة للمشركين والبشارة للمؤمنين في صورة متميزة يمكن أن نلخصها فيما يلي : -
· حمدا لله على قوة المنهج القرآني الذي يقاوم العوج ويرسي القيم الربانية .
· أن الله تعالى لا حد لقدرته فهو صاحب البأس الشديد على الكافرين والظالمين ، وصاحب الرحمة الواسعة على المؤمنين.
2. كل القصص الرئيسية في هذه السورة التي ضمت صراعاً بين الحق والباطل وهي قصة أصحاب الكهف، والصاحبين وذي القرنين، بدأ الحق ضعيفا مهدَّداً، وانتهى قوياً مسدَّداَ، وهي كبسولة أمل سريعة المفعول كل أسبوع لأنها انتهت كلها بالفلاح والنجاح لأصحاب الحق ، والخسران والبوار للكافرين المعتدين على النحو التالي : -
(أ) قصة أصحاب الكهف مع التهديد الذي حدث لهم في حياتهم أولاً حافظوا على دينهم في أنفسهم فلم يفتنوا، وآمن بسببهم قوم لا حصر لهم منذ عثروا عليهم بعد 309 سنة ، ونحن من بعد تسجيل القرآن لسيرتهم مازلنا عبر كل زمان ومكان يتلى فيه القرآن يشع هؤلاء نوراً جديدا في حياة كل مسلم منذ نزلت سورة الكهف حتى قيام الساعة، فأي نجاح أعظم من هذا النجاح ، وأي فلاح أكبر من ذلك .
(ب) قصة الصاحبين ، أظهرت قوة اعتزاز الصاحب المؤمن بصلته بالله تعالى: "لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدا"ً (الكهف : 38)، وفي الوقت نفسه أنذر صاحبه المشرك بالبوار لحديقته ، وقد استجاب الله دعاءه، فكانت العبرة لكل من يعتز بغير الله تعالى: "وَأُحِيطَ بِثَمَرِه"ِ (الكهف:42)، وحدث الندم الشديد: "فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا" (الكهف : 42) وقال: "يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدا"ً (الكهف : 42).
إذن هذه هي نتيجة الاستكبار في الأرض بالعرَض الزائل من مال أو ولد أو منصب، لتكون قصة أمل دائمة لأصحاب الحق أن الله تعالى هو الذي بيده مفاتيح الخير ، وهو وحده النافع الضار ، المعز المذل ، القابض الباسط .
(ج) قصة ذي القرنين في آخر السورة تؤكد معنى أن آخر طريق الدعوة والدعاة هو التمكين، وأنه يجب أن تكون عندهم أسباب القوة بحيث يستطيعون مواجهة الظالمين أفراداً وجماعات أو عصابات ، كما حدث مع أهل المغرب وبين السدين ، وقد تمثلت قصة النجاح في المنع الكامل لهذا الظلم من يأجوج ومأجوج حيث نص القرآن على أنهم: "فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا"ً (الكهف : 97)، وهذا يعني أن آخر مشوار الدعوة بالحسنى هو العز والتمكين ، والقدرة على ردع الظالمين ومنعهم من استضعاف الآخرين ، ونهب ثروات المساكين.
3- في السورة أيضاً ثلاث صور من السلطة، يأتي تسلسلها درساً عميقاً مؤثراً في الأمل ، ويتضح ذلك فيما يلي: -
· السلطة الأولى: الملك الظالم الذي هدد أصحاب الكهف بالقتل رجماً إن لم يعودوا عن دينهم ، ويلتزموا عبادته دون ربهم ، وهو يمثل "السلطة الدكتاتورية" أي الاستبداد السياسي .
· السلطة الثانية: الملك الغاصب في قصة سيدنا موسى والخضر، وهو يمثل قمة الفساد المالي حيث إنه: "مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا "ً (الكهف:79)، ولا يهمه فقر هؤلاء المساكين الذين يكدحون في الأعمال البحرية، لكن الملك ــ في القصة ــ لا يترك نقيراً ولا قطميراً إلا استولى عليه ظلماً وعدوانا.
· السلطة الأخيرة: سلطة الملك العادل ذو القرنين، وهي تخلو من الاستبداد السياسي أو الفساد المالي ، وهذا يبدو من عدم القهر للمحسن ، وترك المسيء يفعل ما شاء، بل منهجه كما قال تعالى: "أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً" (الكهف : 87-88) ، وعندما وجدت مظلمة لقوم بين السدين ، وعرضوا مالاً باختيارهم لإقامة السد كانت أعظم صور التعفف عن أموال الفقراء والمقهورين حيث قال تعالى: "مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما"ً (الكهف : 95) .
مجيء هذه القصة تعني أن هناك أملاً كبيراً لدى أصحاب الدعوة إلى الله أن ينهي الله على أيديهم أمرين:-
أ- الاستبداد السياسي مثل ملك أصحاب الكهف.
ب- الفساد المالي مثل الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا .
وستنتهي الأمور إن شاء الله إلى حاكم عادل عفيف، إن صدقنا الله تعالى في الأمل والعمل الذي لا يفترُ مهما اشتدت ظلمات الباطل .
تكرار الحديث عن الرحمة
4. من أكبر روافد الأمل في سورة الكهف هو ما استوقفني كثيراً من تكرار الحديث عن الرحمة في كل فقرات السورة ، حيث ذكرت الرحمة وهي أوسع أبواب الأمل سبع مرات ترتيبها كما يلي: -
(1)"رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً" (الكهف: 10).
(2)"فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً" (الكهف: 16).
(3)"وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ" (الكهف: 58).
(4)"فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً" (الكهف: 65).
(5)"فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً" (الكهف: 81).
(6) "فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ" (الكهف: 82).
(7) "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" (الكهف: 98).
وإذا أردنا أن نقف على عمق الأمل في الآيات فإننا سنجد أول موضع هو أن ضيق الحياة وتهديد الطغاة لأصحاب الكهف جعلهم يدعون الله تعالى: "رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا"ً ( الكهف : 10)، فكان الجواب من الله سخياً نديا وخيراً كثيراً في الربط على قلوبهم تثبيتا ، وهدايتهم إلى التلطف وعدم المواجهة، والإيواء إلى الكهف: "فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقا"ً (الكهف: 16)، وحرك الله الشمس لتحفظهم ، والأجساد تتقلب، والكلب يحرس ، وأخيراً يبعثهم لتصل رسالتهم إلى قوم آخرين ويؤمنون بما آمنوا به .
أما الموضع الثالث فهو يتحدث عن سعة رحمته سبحانه لكل الخلق فهو الغفور ذو الرحمة، فيرحم ويغفر ويتأنى على عباده، فلا يباغتهم بالعذاب لكل ذنب، لكنه أجَّل ذلك لموعد لا مناص منه ولا مفر لظالم عنه.
فإذا جئنا إلى قصة سيدنا موسى والخضر فسنجدها مفعمة بالأمل من خلال ذكر الرحمة ثلاث مرات، أولها: أن الخضر ممن آتاه الله رحمة وعلماً من لدن الرحمن الرحيم ، وهو يختم القصة بأن كل أحداثها هي نسمات متدفقة من الرحمة الربانية } رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ" ، وما بينهما يبين أن الولد الذي ينتظر أن يكون بديلاً للأبوين المؤمنين هو من يصل الرحم ويتصف بصفة الرحمة بوالديه وأقاربه .
وفي آخر السورة تأتي الرحمة على لسان ذي القرنين بأن ما وفقه الله إليه من بناء السد معهم ولهم هو فيض رحمة من الله تعالى ، وليس من سلطانه ومعارفه ومتابعاته كما يفتن الكثير بعلمهم وسلطتهم، بل هو رحمة من الله تعالى ، وهو ما يوضح معيار الأمل لدى كل مسلم أن الله هو الرحمن الرحيم ، البر اللطيف بعباده، فيرسل لهم من أسباب الرحمة ما يمنع عنهم مظالم شتى ، ويهيئ لهم من رحمته أمناً على معاشهم ، وعليهم أن يستعدوا لرحمات الله في الآخرة بفعل الخير ونفع الغير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق